رواية: وحيد وهناء -٢

كان يبلغ من العمر خمسون عاما، يعيش عازبا، ويعمل بمصلحة حكومية. وكان كثيرا ما يسرح بفكره وهو يسير في الشوارع ولا يلفت انتباهه شيئا، ولو نظر الى شئ فما كان ليرى فيه سوى سطورا نظيفة مكتوبة باحرف منمقة. فور عودته من عمله يجلس على المائدة على الفور، فيلتهم بسرعة ما يصنعه من وجبات سريعة يلتهمها دون ان يحس ابدا بطعمها. وفي المساء في بعض اﻻيام يجلس الى حاسوبه ليكمل بعض العمل او يخرج ليتمشى او يزور اصدقاءه او اقربائه. ثم في الليل يأوى الى فراشه وهو يبتسم سلفا فغدا سيرزقه الله بشئ ما لينشغل به. هكذا كانت تمضي حياة هذا الرجل الوادعة، هذا الرجل الذي رضى عن حظه بالمرتب التي يتقاضاه في السنة، حتى لو مضى العمر ووصل الى نهايته.
ومنذ فترة قليلة بدا وحيد في التفكير بالزواج. رغم انه يعرف ان الانحراف عن الطريق قد يضيع حياته. ان الحكمة تقتضي التوازن في الحياة والثبات في الطريق. هكذا كان يذكر نفسه. الحكمة او الفلسفة تنادي بان الفضائل الرئيسية في الحياة اربع هي: التوازن، الثبات، العدل، التعقل.
التعقل: يعني ان تكلف نفسك عناء التفكير فيما انت فاعله وفيما يرجح ان يسفر عنه. يعتقد البعض انه ﻻ يهم ان تكون مغفلا ما دمت طيبا. التعقل يعني قلب طيب كالطفل وعقل ناضج راشد. فحقيقة تبرعك بجزء من المال ﻻ يعني انه ليس عليك اﻻ تتحقق من كونه احسانا فعلا وانه يذهب لمحتاج وليس لمحتال.
اما اﻻعتدال فقد قصره البعض باﻻمتناع التام عن المسكرات. فرب احدهم يستحسن التخلي عن امور طبيعية كالزواج واكل اللحم وشرب البيرة. ولكن لحظة يبدا اعتبار هذه اﻻمور سيئة في ذاتها، او ينظر بازدراء الى من يستعملونها، يكون قد انحرف عن سواء السبيل.
اما العدل فيعني اكثر بكثير من اﻻمور التي تجري في المحاكم. انه يعني اﻻنصاف وحسن المعاملة والصدق.
واما الثبات فيشتمل على نوعين من الشجاعة: مواجهة الخطر، ومواجهة اﻻلم. انه يعني التجلد وسط المعاناة. وستلاحظ انك ﻻ تستطيع ان تمارس اي فضيلة اخرى بدون ان تطلق يد هذه الفضيلة اﻻخيرة بالذات.
-*
كثيرا ما تصادف ان يصل الى سمعه صوت جاره جرجس وهو يتحدث في انفعال واضح مع الفتاة التي احبها. فقد تخاصمت العائلتان – عائلته وعائلتها بسبب الماديات. صديقه جرجس متمسك بها، ومع ذلك يسمع شجار والده مع والدها وهما يتحدثان في الهاتف.
تذكر ان احد اصدقائه اسرى اليه بخبرة مؤلمة. قال له: ان قصص الحب الضائعة ايام الشباب تصبح في الكهولة احماﻻ صعبة مهما تصورت انك تجاوزتها بقصة ناجحة تزوجت فيها وانجبت وصار لك بيت. واصعب ما فيها انك ﻻ تستطيع ان تتحدث عنها ﻻحد من بيتك. طبعا ﻻن صورتك سوف تهتز امام مجتمعك. وقد يحمل هذا اساءة كبيرة لعائلتك. اﻻسوأ ان ما تشعر به الم ﻻ تستطيع ان تنفث عنه. يظل مكتوما، فيولد الكبت ثم اﻻنفجار.
اﻻن عرف لماذا صديقه الشاب متمسك الى هذه الدرجة بالفتاة رغم الخلافات المحتدمة بين العائلتين. لقد مضى اربع سنوات وربما خمس على الخلافات ومع ذلك لم يقدم الفتى على خطبة اي فتاة غيرها. هل هو الحب؟ ربما الحب في احد صوره.

الحاح اﻻهل بالزواج اضر ابناء كثيرين! .. يوميا يجد وحيد من يسأله، السؤال الساذج – لم لم تتزوج حتى اﻻن؟ او يقول الكلمة – لك عندي عروس!
في احد المرات اعطته زوجة اخيه خاتما قالت انها وجدته بالصدفة ملقى في اﻻرض. ناولته اياه امه وهي تتفرس فيه : خذ البس، جرب هذا.
تناوله وراح يدسه في اصبعه بصعوبة ثم قال ببساطة:
ليس على مقاس اصبعي.
ربما عرفت امه من رد فعله انه نبذ فكرة الزواج. وفي مرة اخرى تحدثت معه زوجة اخيه وهي تمدح امامه احد المشاهير من نجوم التمثيل ﻻنه لم يقبل الزواج بعد رفض محبوبته الزواج منه. فراح يبتسم لنفسه وهو يردد: يا لعقل النساء الواهن! هل هذا هو اﻻخلاص و الحب في نظرهن؟!

مرت ايام..
عرض عليه اﻻهل بالزواج من ابنة عمه فرفض.. تمر اﻻيام ويبدا الالحاح مجددا.. في هذه المرة كان اﻻمر مختلفا. لقد جاءه اﻻقتراح من ابيه الروحي. اعتبر ذلك دعوة من السماء. يومها فكر… وفكر.. وامسك قلمه وراح يدون في مذكراته “عرفت يا رب ان ليس للانسان طريقه، ليس ﻻنسان يمشي ان يهدي خطواته”.
ثم اغلق المفكرة وراح يتأمل في غلافها ويتساءل: لمن عساه يكتب هذه المذكرات؟ خطر هذا السؤال على باله على نحو مفاجئ! هل من اجل المستقبل – من اجل منفعة الذين لم يولدوا بعد! من اجل العاشقين في كل جيل. من اجل الشباب الغر قليل الخبرة؟
جلس بعض الوقت محدقا في الصفحة امامه ببلادة. ولم يكن من الغريب انه نسى القدرة على التعبير عن نفسه، بل ايضا نسى ما كان يعتزم كتابته في اﻻصل. لقد انفق اﻻسابيع الماضية في التفكير في هذا اﻻمر الخطير والقرار المصيري. وهذه اللحظة لحظة مهيبة. لم يخطر في باله ابدا انه سوف يحتاج الى شئ، عدا الشجاعة طبعا! اما الكتابة نفسها فسوف تكون سهلة. لم يكن عليه اﻻ ان ينقل الى الورق ذلك الحوار المضطرب مع نفسه، الحوار المستمر من غير نهاية، الذي يجري في راسه منذ سبعة سنوات.. لكن ذهنه نضب في هذه اللحظة حتى من ذلك الحوار. كما لم تسعفه الكلمات ايضا.
مضت الثواني تباعا. وما كان واعيا ﻻي شئ، اﻻ ذلك الفراغ على الصفحة امامه، .. وعلى نحو مفاجئ وجد نفسه يكتب وقد تملكه شجاعة مستميتة. فحين تسد اﻻبواب ﻻ يبق اﻻ اﻻصطدام بالجدار ومحاولة فتح ثغرة فيه.
عبارة الحب هو كل شئ في الزواج خاطئة. انها لغة المراهقين .. الحب مستورد من اﻻفلام والروايات الرومانسية. الحب تضحية وليست اشتعال عواطف او لحظات من التوهج العاطفي. وليس ايضا عواطف مائعة حمقاء بلا وعي وﻻ ادراك. المراة تقوى ان كان الرجل ضعيفا. وانانية الرجل تستفيد من ضعف المراة. الحب المائع قابل ان يتبدل او يتبطن. فقط الكبير الناضج يحب حبا ناضجا ويملك قلبا كبيرا.
حقا الحياة معقدة! ﻻ، اﻻنسان معقد جدا. ان الحياة الزوجية جهنم ان خلت من الجديد. كل يوم يكتشف الزوجان في بعضهما شيئا جديد. الحب الزيجي الصادر من قلبين كبيرين هو حب غير محدود اﻻفاق. ينمو بلا انقطاع. المحبة غير محدودة ﻻن الله محبة وهو غير محدود.
لماذا نرى البعض يصبحون مزعجين وينفصلون؟ اﻻ يحدث ذلك ان سقط احدهما في عينى اﻻخر. فالمراة تنهار ان احتقرها زوجها. والزوج يفر من المنزل اذا احتقرته زوجته. الى اين؟ اﻻحتماﻻت عديدة، فلكل رجل معدنه.

وتوقف فجاة عن الكتابة جزئيا ﻻن غصة منعته. لم يكن يعرف الشئ الذي جعله يصب هذه الكلمات. لكن اﻻمر الغريب هو ان ذكرى مختلفة تماما انجلت في ذهنه بينما كان يفعل ذلك.. انجلت الى درجة ان خالها مكتوبة امامه. كانت هذه الحادثة هي التي جعلته يغير مجرى حياته. وهي انها رفضت عرضه بالزواج. وشعر وحيد انه سيجرح مشاعرها لو تأرجح بين الرفض والقبول. فيقرر ان يكف عن المحاولة. وﻻ يلبث ان يعاوده الحنين فيشتعل، يشعر انها قطعة منه.. انه زوجها منذ ان قبلت عرضه بالزواج. وما المراسم وحفل الزواج اﻻ اعلان عن حبهما.
هي ايضا حاولت ايجاد وسيلة للتواصل معه في الفيسبوك، وفي اﻻشارة التحية – افتعال ازمة في مجموعة درس الكتاب..
ان سلوكه اﻻنطوائي الذي اعتاده منذ صغره يجعله يتجنب الحديث مع الفتيات اﻻخريات. هو يحاول ان يتناساها فيفشل. ثم بدا في السؤال مجددا عن معنى الحياة والهدف منها .. ويتساءل في حيرة ويتعجب، لماذا غير اتجاهه من العزوبية الى الزواج؟ ومن اﻻنطوائية الى محاولة اﻻنفتاح على هذا العالم.
عيناه عادت تحدقان الى الورقة امامه. واكتشف انه بينما كان يجلس مستغرقا في التامل كان يكتب ايضا .. وكان ذلك فعلا ﻻ ارادي.. لقد انساب القلم رشيقا فوق الورق الصقيل فكتب بحروف انيقة:
احبك .. احبك.. كتبها حتى ملأ بها نصف صفحة..
شعر باغراء تمزيق الصفحة..
لكنه لم يفعل.. ﻻنه يعرف انه سواء تابع كتابة هذه المذكرات او ﻻ فلا فرق ايضا.
استند بظهره الى كرسيه وهو يشعر ببعض الخجل من نفسه. وفي اللحظة التالية

وفي اللحظة التالية قرع الباب فاجفل اجفاﻻ عنيفا. كان ثمة من بالباب.
جلس ساكنا مثل فأر مذعور.. راوده امل واه بان من يقرع سينصرف بعد المحاولة اﻻولى. لكن هيهات! تكرر القرع على الباب. اسوا اﻻشياء على اﻻطلاق ان يتأخر. كان قلبه يدق مثل طبل..
بالباب جارته سناء. حيته وقالت:
هل لديك خبرة في تصريف الجارور؟
كانت سناء لديها عادة قطع الجملة في منتصفها. وكان زوجها هاني نشيطا وغبيا غباءا يبعث على الشلل. كان كتلة من الحماسة الحمقاء. واحدا من اولئك المخلصين للعمل الكادحين.
وفجأة وجد نفسه يفكر فيه من جديد:
منذ كم من الزمن؟ ربما سبع سنوات.. حلم مرة انه يمشي..
كانت تلك عبارة تقريرية وليست حوارا حقيقيا. لم تبد الكلمات ذات معنى اﻻ بعد مدة من الزمن وعلى نحو متدرج.

**
لم يعد واثقا من حبها له اﻻ انه يثق انه يحبها .. انها …
كان احساس النشوة بالكتابة يزول وحل بدلا منه احساسا بالخواء.
التفكير المزدوج.. المعقد. ما هو؟
لماذا يكتب؟ امن اجل المستقبل؟ ام من اجل الماضي؟ .. امن اجل زمن ﻻ يوجد اﻻ في مخيلته.. سوف تتحول مذكراته الى رماد. وسوف يتحول نفسه الى بخار انفاس ﻻهثة يظهر في ليلة باردة ثم يضمحل.
لقد كان وحيدا مثل شبح ينطق بحقيقة لن يسمعها احد. على اية حال، يمكن للمرء ان يواصل التراث البشري ﻻ عن طريق جعل صوته مسموعا، بل عن طريق البقاء بعيدا عن حافة الجنون.
عاد الى طاولته. وامسك قلمه وكتب:
الى المستقبل او الى المااضي.. الى زمن يكون فيه الفكر حرا. والحب ابديا. واﻻرواح صافية. عندما يكون البشر مختلفين عما هم عليه اﻻن. الى زمن تكون فيه الحقيقة.
اﻻن وبعد ان ادرك الموت بتقدم العمر صار مهتما ان يحيا اطول فترة ممكنة.
كان اﻻطفال اشقياء من نوع ما. وكان اﻻطفال يتم برمجتهم. كان هذا نوع من اﻻلعاب الممتعة بالنسبة لهم.

أضف تعليق